القائمة الرئيسية

الصفحات

أخر الاخبار

ما هو, الواقع ؟ بين العقل والنظرة الصوفية, الروحية.

الواقع , ما هو , بوجهة نظر العقل وحسب منظور الصوفية الروحية

ترى ما هو الواقع؟ وعندما يطلب منك أحدهم قائلاً: بالله عليك "كن واقعياً" فعن أي واقعيةٍ يتحدث؟ إذا سألتهُ شخصياً هذا السؤال فسوف يجيبك بثقة. لكن إن سألت اثنين آخرين غيره فسيقع الجميع في ارتباك كبير. الجواب صعب لأننا نتجادل في مفهوم الكل متفق على وجوده، والكل مختلف على تفسيره, فلكل قبيلة واقعها الخاص.

يحدث الخلاف، بسبب الاختلاف بآلية إدراك الظواهر بالنسبة للبشر. ويحدث الاتفاق عندما تتوحد النظرة للأشياء. ولا يمكن توحيد النظرة إلا بالإرتكاز لما هو راسخ.. وقوي.. ولا يتغير، إلا بالرسوخ لعالم الروح. فكل البشر خلق الله، والروح واحدة في الجميع. ورغم ذلك فما زال أكثرنا يضيع في صياغة الواقع حسب طريقة إدراكه للاشياء.

الواقع.. بين المادية والصوفية.

من حق الانسان وربما من الواجب عليه أن يهتم بعالمه الجسدي فالجسد منحة من الله، وعلى الإنسان أن يحافظ على منحة الله، وأن ينمو في عالمه المادي. لكن القضية التي تستوجب التفكير، هي أن أكثرنا يجنح للاهتمام بالعالم المادي المحسوس، أكثر من اهتمامه بعالم الروح. وكأنه يؤجل اهتماماته الروحية، لما بعد مماته.

كذلك فإن بعضنا، يؤدي مهامه الروحية بطريقة عقلية، وبذلك يعتبر أنه أدى ما عليه من واجبات. فتراه يسعى ويبذل كل طاقته في مناكب الحياة والعمل والمال، اما اهتماماته الروحية فلا يبذل في سبيلها أي طاقة فعلية.. باعتبار أنها أمر مفروغ منه،  خصوصاً إن كان يؤدي طقوسه التي اعتاد منذ الصغر أن يرى أهله ومجتمعه يؤديها، بغض النظر عن انتمائه الديني.

في النهاية، نحن أرواح وتجسدت. وهنا يحدث الخلل ويضيع التوازن. عندما يطلق الإنسان على العالم المادي لفظ الواقع المادي ويتمسك بهذا المصطلح ويصوغه كقانون.

الخلل كبير فما إن تقول واقع حتى تخطر ببالك فكرة الثبات، وقلة هم من يغيرون واقعهم. وهذه القلة، هي من تنفي أن يتحول الواقع هو قانون. فالقانون ثابت وليس متغير، وليس بحاجة لأن يتحول.

القانون الحقيقي هو الذي لا يمكن اختراقه، إلا بالقانون ذاته..

أما نسف القانون من أساسه، فهو ما يلغي صفة الثبات عن الواقع، لأن الواقع الذي يقصده أغلب البشر.. يمكن نسفه.. وطبعا يمكن نسف المتغير، ضمن القانون الالهي الثابت، فلا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

وبما أن الكلمات وجدت للدلالة على المعاني، وليس لتفسيرها. فالكلمات لا يمكنها أن تفسر ما هي الروح. لكننا سنستخدم الحروف فقط لدلالة عن مصطلح الواقع المادي، إذا اتبعناه بصفة المتغير. ورغم صعوبة القول أن هناك واقع روحي ثابت، لكننا سنستخدمها وربما القصد هو النظرة الروحية للواقع المادي المتغير.

الواقع المادي .. (الواقع المتغير)

لا يمكن تجاهل حاجة الإنسان لهذا الواقع المادي، لتنظيم خبراتنا في حياتنا التي نحياها. لكن الخلل هو بالمبالغة بتقدير الواقع المادي لدرجة الإجلال والهوس فيه. فهو بالنهاية سينسف عاجلاً أم آجلاً .

حتى قوانين الفيزياء الكلاسيكية يتم نسفها برمتها، عندما تتحرك الأشياء بسرعة الضوء والدارسين بالعلوم يعرفون هذه الأشياء أكثر منا بالكثير الكثير، ويعرفون أن هناك حافة للعلم..  يصبح عندها الواقع مزيجاً من الحقيقة والوهم.

ومنهم أيضاً من يقول إن الإنسان هو من يصنع واقعه مستعيناً بعقله وبطريقة تفكيره.

إن عقلنا البشري يلعب دوراً أساسياً في تحديد واقعنا. العقل هو المعالج المركزي لكل المعلومات التي نتلقاها من عالم الحواس. وفي هذا المعالج العقلي، تتم صياغة الواقع، أو بالأحرى يتم "بناء الواقع" من خلال الدمج بين اعتقادتنا ومعتقداتنا ومخاوفنا وأمنياتنا وتوقعاتنا. وتعتبر الحواس الخمسة هي وسيلة الإدخال الأهم، التي تساعدنا في صناعة الواقع المادي المتغير. رغم أنها غير قادرة على إدراك كل المظاهر والظواهر.

مثلاً: عندما ترى الحجر تقع في الماء وعندما تسمع صوت وقوعها، فإن الحجر وقعت في الماء بشكل واقعي. أما عندما لا تسمع صوت الحجر، ولا تراها؛ فلا يوجد أيّ حجر وقعت بالماء! لماذا؟ .. لأن الواقع بحاجة إلى إنسان يدركه كي يصبح واقعاً.

ربما يدركه الآن وربما يدركه لاحقاً. فالواقع قابل للاكتشاف في أي لحظة, كي يصبح واقعاً. كأن يتم اكتشاف رُقماً أثريةً بمناطقٍ مختلفةٍ ومتباعدةٍ جغرافياً .. تتحدث هذه الرقم - كلها وبإجماع - عن حرب درات رحاها في زمن ما، لكنك لم تكن قد سمعت بها.. لكن كل الرقم تشير إلى وقوعها. فهذا الرقيم يدوّن كيف يندب الخاسر خسارته وذاك الرقيم يدوّن كيف يبتهج المنتصر بانتصاره.

إن وجود مثل هذه الأدلة هو سبب كافي ليجعل من هذه الحرب التي لم تكن موجودة سابقاً، لأن تصبح موجودة الآن، وعلى أرض الواقع. لأن هناك من البشر من أدركها.. ولو بوقت لاحق. .

قد يكون أحد العلماء المجتهدين، قد أفنى حياته بدراسة هذه النظرية عن وقوع تلك الحرب، لكن، حينها لم يكن مجمع العلماء يؤيده. إذاً.. واقعه الشخصي.مختلف عن واقعه الجمعي . لكن وما إن يثبت هذا العالم نظريته بالأدلة والبراهين حتى يرضخ العلماء لهذه النظرية وتصبح حقيقة وواقع.
إذاً الواقع المتغير، واقعان .. واقع شخصي .. وواقع جماعي .
الواقع الشخصي هو من يشكل الجمعي .. والواقع الجمعي هو من يسيطر على الشخصي..

الواقع الشخصي

هو إدراكنا العقلي وتفسيراتنا الفردية للانطباعات المتغيرة التي تتراكم من خلال حواسنا، وهذا الواقع الشخصي متباين كتباين بصمات الأنامل , ويختلف باختلافها , من شخص لآخر. مهما بحثت لن ترى اثنان , يدركان العالم ويفسرانه بشكل متطابق , بالمطلق.

قد تجد شقيقان تختلف نظرتهما للواقع. أحدهما يقول: عليك أن تصبح لصاً حتى تجمع المال وبالتالي هذا واقعه الشخصي والخاص به.
وبالمقابل ترى شقيقه الآخر له واقع شخصي مختلف يقول له: بل يمكنك أن تصبح ثرياً دون أن تكن لصاً. كذلك هذا له واقعه الشخصي والخاص به.

وبالتالي لا يمكن اعتبار الواقع الشخصي أنه حقيقة مطلقة. لكن أغلبنا يعجز عن التخلص من مفاهيم تقيد حياته.. لأنه هو من صنع واقعه وبناه على أسس إدراكه لهذه المفاهيم.  وبات يصعب عليه التخلص مما بناه.. ولو كان الثمن هو واقع أجمل وأفضل - ولو بشكل نسبي- فالواقع دائم التغير والتشكل.
الواقع هو ظواهر تحدث وتترسخ حسب القوة والتقادم .. لأنه في حركة ولن تتوقف هذه الحركة.

بما أن معظمنا يستمد تفسيره للواقع من حواسه الطبيعية، فهو عرضة للخطأ في تفسير ما يراه أوما يسمعه. فالكل يعرف أن الحواس يمكن خداعها، يمكنها أن ترى الوهم وتظنه حقيقة.
يمكن للأنسان أن يشعر بالحقيقة التي لا يمكن رؤيتها.. فالحقيقة دوماً عصيّة على عالم الحواس، لكنه لن يؤمن بها لإنه (انسان واقعي) ويجب عليه أن يرى الحقيقة ويسمعها ويلمسها ويشمها ويلحسها.. حتى يؤمن بها ... حتى لو كان ما تنقله الحواس خداعاً.  فالشمس بقيت لقرون كثيرة هي من تدور حول الأرض. كذلك الخطوط المتوازية تتعرض لخدعة البصر وتلتقي عند الأفق. والسراب تراه العينُ.. ماءً .

إنها الحواس تتعرض للخداع فيفسر عقلنا حسب ما يراه. مع أننا نسميه "عقلٌ واعٍ" . لكنه يتعرض للخداع أيضاً. وبالتالي إذا كان العقل الواعي يتعرض للخداع.. فماذا عن العقل الباطن اللا واعي الذي لا يمتلك أي حواس .

لقد تحدثت كل العقائد والأديان عن الوهم الذي يصبح حقيقة. كذلك تحدث العلم والعلماء عن أن العقل الباطن لا يمكنه أن يميز بين ما هو حقيقي وبين ما هو متخيل. لا يميز ان كانت الصورة قادمة إليه من الحواس أم من الخيال. فكيف سيمكننا الاعتماد عليه لبناء الواقع واعتباره حقيقة لا ريب فيها.

الواقع الشخصي، ما هو إلا بنيان ضخم تم بناؤه في العقل الباطن. وبات من الصعب على اي شخص إقناع عقله الباطن ولا وعيه بأن هذه الظواهر هي مجرد ظواهر معرضة لاختلاف الادراك.. وبالتالي يمكن تغييرها، بتغيير الإدراك. 
ثم إنّ الواقع الشخصي،  للشخص نفسه، متغير. فكيف هو الواقع لمجموعة من الأشخاص! أو ما يسمى الواقع الجمعي.

الواقع الجمعي

إن ما ينطبق على تباين الواقع بالنسبة للشخص نفسه، يتعزز أكثر بالنسبة إلى الواقع الجمعي ( لمجتمع .. أو لأمة .. أو للبشرية جمعاء).

فرغم اختلاف الادراك والآراء من شخص لآخر.. لكن لا بد من الوصول إلى حل مشترك يرضي الأغلبية وهذا ما يسمى الإجماع أو شبه الإجماع.

إنه ترشح للظواهر، وانتخاب.. لكن الاقتراع فيه يتم خلال أعوام كثيرة.. تتثبت فيه مفاهيم وإدراكات متشابهة قدر الإمكان.. لأكبر أو لأقوى مجموعة بشرية , فيصبح إدراكها للظواهر هو واقع للجميع.. واقع جمعي.

حتى البشرية -ككل - لها واقع جمعي يختلف عن واقع عالم الحيوان.. فالحيوانات لديها حواس أيضاً لكنها لاترى العالم كما نراه نحن بالضبط . فلو كانت الفراشة ترى النار كما نراها لما ذهبت إليها لتحترق فيها..

ربما يكون الواقع الجماعي هو الحل الوسط لكل القضايا التي تم الخلاف عليها وتم تشكيل واقع شخصي كافي ليسير بها صوب الجماعية. فالكل يصبح يهتز تقريباً على نفس الترددات. إنه الحلم الجماعي أو الوهم المشترك للكثير من الناس معاً.

الواقع الثابت الروحي

الواقع ليس قانون ولا بأي شكل من الأشكال. لأنه مستند إلى عالم الحواس. فكل ما تراه عين الإنسان هو واقع. أما القانون فلا يمكنك رؤيته، يمكنك تطبيقه على هواك.. فإما تستفد منه أو تتأذى من مخالفته. لكن بكل الأحوال لن يمكنك رؤية القانون ولا يمكنك رؤية الحقيقة.. ولن يمكنك رؤية الروح .. بعينك المادية .

النظرة الصوفية الروحية للواقع

إن كل ما تدرك وجوده وتعجز عن رؤيته.. هو ثابت. ثابت لأنه خارج إطار الحواس المعرضة للخداع وللوهم. الحواس التي ترضخ للتغيير، ما إن يحدث .

أما الروح فهي ثابتة لا تتغير. من يجرؤ على القول أن الروح تتطور! من يقل ذلك عليه أن يراها سابقاً ولاحقاً حتى يستطيع المقارنة وحتى يستطيع إسباغ صفة التطور عليها. وكيف للمحدود أن يصف الكلي وهو غارق فيه!.

الصوفية مجازٌ للنظرة الروحية التي تحدث بها الإنسان بغض النظر عن انتمائه الديني.. فليس المقصود بالصوفية هنا.. مذهب بحد ذاته. بل هي إشاراة للنظرة الروحية للظواهر المادية المسماة واقع.

الصوفيون -أيا كان انتمائهم - يرجعون كل الأشياء إلى الفراغ والعدم فالحقيقة ليست صوت ولا رائحة لها ولا يمكن رؤيتها .

لقد استثنوا الحواس وباتوا مطالبين -بنظرنا- بأن يأتوا بما هو أعظم من هذه الحواس ليدركوا الواقع. إنها الجرأة والشجاعة والتوق الروحي هو الذي دفعهم للسير على حافة الروح والجسد.

لقد أتوا بالبديل.. فمن يقصد الله صادقاً يرشده إلى الدليل. لقد أدركوا فعلاً أن الإنسان هو الكون المصغر، في العالم الأكبر. لقد أدركوا حقيقتهم الكونية.. أدركوا حقيقتهم الإلهية.

إن أدواتهم لإدراك الظواهر والمظاهر..هي فوق القدرات العقلية التي اعتدنا عليها.

هم ينظرون بدون إقحام الإدراك والتفسير.. ينظرون للأشياء مباشرة ، كما هي حقاً .
هم ينظرون لغيرهم كروح متجسدة ولا تعنيهم بقية الأشياء ، فالأشياء إلى زوال هي وواقعيتها المزعومة.
أيّ واقعيةٍ هذه التي لا تأتي إلا عن طريق استخدام العقل المحدود وعن طريق التفكير!! في حين أن الحقيقة لا يمكن اختبارها أو أدراكها .. إلا بعد أن نوقف التفكير .

خواطر صوفية عن الروح 

ربما لا يمكننا دمج لفظ الواقع بالروح والقول، "الواقع الروحي" لأن الروح لا يمكن إيقاعها إلى عالم الحواس.
الواقع المفروض على الكثيرين.. هو الاستسلام !! استسلامٌ  لكن ليس من باب السلام . استسلام وليس تسليم. 
إن الواقع المفروض على البشر، من الدمار والحروب.. ليس سلاماً مع الله والروح. هو استسلام لعالم الحواس ولتحليلات البشر وتأويلاتهم الشخصية.

وما أقرب لفظ الواقع من فعل الوقوع.. وما الوقوع إلا هبوط في الطاقة.. والواقع هو المظلة التي ابتعناها، بعد أن أهدرنا طاقتنا على ما لا ينفعنا.. بعد أن تخلينا عن أجنحتنا وبعناها للأوهام. ومن يفقد أجنحته عليه أن يتشبث بمظلة الواقع.. عساه يحصل على تجربة هبوط آمن على عتبات الحياة.. ويالها من حياة.

انت الان في اخر مقال

تعليقات