القائمة الرئيسية

الصفحات

أخر الاخبار

الروحانيات والادمان - ما هو التحايل الروحاني ؟

الإدمان على الروحانيات

الروح, الادمان, التأمل, الصلاة,

كان الرجل يؤمن بالروح. يتأمل ويتعبد الله لسنوات طويلة, لكنه كان دوماً مكتئب.

الروح والإيمان العقلي.. هل يجتمعان

كان الرجل يؤمن بالروحانيات. يتأمل ويتعبد الله لسنوات طويلة, لكنه كان دوماً مكتئب. مع أنه كان جزءاً من مجتمع روحاني مؤمن. أفراده يتضرعون إلى الله من خلال الصلاة والتأمل, كلما انتابتهم ظروف ومشاعر مؤلمة, كالغضب أو القلق أو الظلم أو الاكتئاب.

علموه أن هذه الطريقة تفيده بالمحن, وتبث الاطمئنان في قلبه الحزين, وتجلب السلام لروحه. لكن هذا لم يحدث, لذلك دائماً ما تراه يشعر بالخيبة وهو يقول شاكياً:

"لماذا يا ربي! لقد أديت بصدق وإخلاص وأمانة, كل ما توجب علي فعله، لماذا ما زلت أعاني من الاكتئاب, ولماذا اكتئابي في ازدياد؟ ما الخطأ الذي أرتكبته مع أني نشأت في مجتمع روحاني؟"

ثم كان يبكي في وقت غير مناسب للبكاء, تحديداً عندما كانت روحه تهمس له: "إنه التحايل والالتفاف". لكنه على كل حال لم يكن يسمع هذا الجواب, باعتبار أنه مشغول حالياً بالشكوى والنواح ولا وقت لديه للأنصات لروحه.


التحايل الروحي

يقول بعضهم أن التحايل أو الالتفاف الروحي يحدث عندما يلجأ البشر للممارسة الروحية كأسلوب للهروب من مشاعرهم السلبية التي اعتادوا عليها منذ مدة طويلة جداً, مشاعر غرقت في قاع الذاكرة, لدرجة أنهم نسوا مصدرها.

يلوذون إلى الروح لتساعدهم على الهروب, وليس لإيجاد الحلول. ويقولون أن كل أسلوب نتبعه بهدف إبعاد, أو دفع أو تأجيل شعور إدماني ينتابنا منذ زمن, يصبح إدماناً بحد ذاته.

الإدمان

من أسوء الأساليب التي ابتكرها البشر, هي مواجهة الإدمان بالإدمان. وغالباً ما تكون حجة مدمن الكحول -حتى وإن رفض أن يقول- هي: "الهروب من واقع لا يتغير".

يتجاهلون أن استمراية الواقع بهذا الشكل, هي مسؤولية البشر, فواقعهم الحالي هو صنيعتهم, وليس صنيعة الرخويات. والغريب في الأمر أن هذا الواقع غير مرضي لمن صنعه. بمعنى أننا -كبشر- نصنع الواقع, ونهرب منه.

الكل يريد الهروب, الفقير يهرب إلى الكحول الرخيصة والثري يبتاع الكحول غالية الثمن. لكن في النهاية كلنا نهرب بشكل أو بآخر, من واقع بات مدمنا على تعذيب البشر.

بالتأكيد لا داعي لذكر كل أنواع الإدمان فهناك الإدمان على المخدرات, الادمان القمار, على الطعام, التسوق, الغضب, الشكوى, أو حتى أنه يوجد هناك , الإدمان على الروحانيات.. بغية الخلاص. لكنه خلاص مؤقت ليس إلا.

الخلاص المؤقت
يقولون: عندما يداهمك شعور مؤلم، وتدخل مباشرةً بعوالم التأمل, آملاً التخلص من هذا الوضع البشع الذي لا يريد فراقك. أنت في هذه الحالة مدمن الروحانية. ولست روحاني. وبالطبع هذا يتوقف على قصدك ونيتك عندما تتأمل وتتعبد؟. يمكن للناس ممارسة التأمل لسببين مختلفين تماماً: إمّا لتجنب الألم, أو للنمو في عالم من المحبة.


الخلاص الروحي

إذا كنت تلوذ للتأمل والتعبد والصلاة, ليس لأنك تكره شيء في دخلك, بل من أجل النمو. فإن تعبّدك هنا هو سفينة النجاة لإخراجك من سجن رأسك الممتلئ بمشاكل حدثت, ومشاكل لم تحدث بعد. إلى مكان أرحب وأكثر إشراقاً ومحبةً, بوابته في قلبك.

تصبح محباً لنفسك ومؤهلاً لتحمل المسؤولية. تسبر أغوارك متسلحاً بالروح التي تسمو فوق كل ظروف حياتك مهما كانت قاسية. عندما تصل لهذا البعد الروحي, تطمئن لأنه القادر على التعامل مع كل هذه المشاعر التي تنتابك باستمرار. يجعلك قادر على الترحيب بها. يساعدك على احتضانها وعلى الحوار معها.. مع ذاك الصغير, الذي كان أنت, في ذات يوم بعيد.

هو ما يزال موجود, لا تعتقد أنه رحل, إنه الأساس ولن يرحل بسهولة. هو من يتسبب لك بهذه المشاعر, لأنه مازال يحملها, لطالما كان يريد أن يقول لك شيئاً وأنت دائماً تطرده فيهرب لبرهة, لكنه لا يلبث أن يعود وأنت ما زلت مصر على إبعاده عنك: "عد إلى مخبأك" تقول له بتأملك الذي تظنه روحياً.

إذا كنت تلجأ إلى الروح لتساعدك على (تجنب) ألمك، فأنت تستخدم حالتك الروحية بشكل مدمن. بهدف تجاوز ما في داخلك من سوداوية. أنت تستخدم الروحانيات, لتطيل أمد المعاناة.


الأب الروحي

لطالما كان هذا الرجل يرفض التعلم من مشاعره التي كانت, ما إن يختفي ذيلها, حتى تطل برأسها، كان يدفنها في داخله, بدلاً من أن يحررها في الهباء, فالفراغ كبير وغير محدود, لماذا الإصرار على حبسها في هذا الجسد الضيق.

عدا عن أنه يتجاهل ما في نفسه, كان يدينها باستمرار. وبذلك جمع البؤس من طرفيه. إن جمعه بين تجاهل نفسه, من خلال التأمل, كهروب . ومن جهة أخرى بإدانة نفسه, أدى إلى أن تتملكه حالة اكتئاب مجهولة المصدر. شعر بأنه غير محبوب وغير مهم, سيء وهامشي ..

عندما أصبح أباً. أدرك الرجل أنه إذا عامل أطفاله بذات الطريقة التي يعامل بها نفسه حتى الآن, بمعنى إذا تجاهل مشاعرهم وإذا حكم عليهم باستمرار, فلا بد أنهم سيشعرون مثله بالسوء, ولاحقاً سيشعرون بالاكتئاب.

لذلك لم يتجاهل مشاعرهم, لكنه استمر بذات التصرف القمعي مع ذاك الطفل المخبوء في داخله. استمر في قمعه دون أن ينصت له أو يعلم ما هي احتياجاته. تمادى في الهروب والتأجيل, على أمل أن يحدث التغيير, بأحد طقوسه الروحية..

لكن الأمور ازدادت سوءاً, لأنه حافظ بأعماقه على الطريقة التي عومل بها من والديه. لم تكن طريقة مثالية برأيه. وبالطبع هذا رأي كل الأطفال بتربية أهلهم لهم.. إضافة لأنه كان يعامل نفسه, بذات طريقة تعامل والديه مع بعضهما, أمامه, عندما كان طفلاً.

لكنه ورغم أنه كان يعامل أولاده بشكل جيد, ومختلف عن الطريقة التي تربى عليها. لم يكن نموذجًا جيدًا لهم. فقد باتوا يشعرون بأنهم يتحملون المسؤولية عن مشاعره السلبية التي يبثها باستمرار. للأسف فقد أصبح الأب الروحي, قدوة سيئة لأطفاله, تمامًا كما كان والديه, قدوة سيئة بالنسبة له.


الانعتاق الروحي

إن الله يهدي من يشاء..
وبعد سنوات من المعاناة , كتلك التي تحول الفحم إلى ألماس. وصل الرجل إلى الشفاء. عرف أن الهجر, هو السبب في اكتئابه. اكتملت الدارة أخيراً, وكف عن الشكوى والنواح فسمع همس روحه: "أنت لا تحب نفسك منذ مدة بعيدة جداً" "متى ستحب نفسك؟ مازلت حي والفرصة مواتية"
داوم الرجل على التأمل والتعبد كما كان, لم ينقطع, لكن النوايا تغيرت. لم يعد يريد من صلاته أن تصبح مجرد عادة, أو جرعة مؤقتة يهرب بها من مشاعره المؤلمة. بل أراد منها ذاك الارتباط المنشود. الذي كان مفققود.
ارتبط مع روحه المطمئنة, أكثر من ارتباطه بآلامه المتقلقلة, تشبث بالثابت أكثر من تشبثه بالمتغير. وبالتالي تعلم فن الترحيب بمشاعره المؤلمة, بدلاً من الهروب منها. تعلم معانقة ذاك الجزء المدين, الذي يجعله يحكم على نفسه, بنفسه. تعلم أن يتحمل مسؤولياته حيال مشاعره.
تعلم أن يعتني بنفسه وأن يعاملها باحترام. تعبد بمحبة, حتى لا يهرب شعوره (الطفلي) منه, كف عن الإدانة والكره, وعقد الصلح. وعرف أخيراً أن اكتئابه كان هدية إلهية لإصلاح ذات البين, بينه وبين ذاك الطفل المحبوس في أعماقه على هيئة مشاعر قديمة متعفنه ومظلمة.
ومع الممارسة، تعلم أن يعتني بنفسه أكثر فأكثر، فاختفى اكتئابه. والآن, لم تعد ممارسة التأمل والتعبد الخاصة به, تجاوزًا روحيًا. بل باتت نمواً.

تعليقات